لوحات كاتدرائية فرانسيس الأيسيزي قمة التطور في أسلوب بندوني

المقاله تحت باب  فنون عالمية
في 
12/01/2009 06:00 AM
GMT



جوتو بوندوني راعٍ بسيط يصبح الشرارة الأولي لعصر النهضة
مبتكر القيم اللمسية وقائد التمرد علي الأيكينوجرافيك
بعض الكتاب يصفونه بأنه مرابٍ جشع ودانتي يصوره في  المطهر
لوحات الفضائل والرذائل في مصلي آرينا في بادوا من أهم أعمال بوندوني
لوحة البخل في مصلي آرينا تؤكد أن بوندوني كان فيلسوفاً

في محاولة لاستجلاء الأهمية القصوي لقيم التصوير يبدأ النقاد في وضع تصنيفات لأي القيم الجمالية في فن التصوير هي الأهم والأقوي تأثيرا علي الحواس بل والأكثر إمتاعاً للحس، يؤكد النقاد أن الفن التشكيلي جزء من المتعة البصرية والرفاهية الحسية رفاهية تشترك معظم الحواس في الإحساس بها بداية من حاسة الإبصار التي تشكل جسرا قويا لعبور المعادل البصري الي العقل وبالتالي يقوم العقل بتوزيع هذه التجربة البصرية علي جميع الحواس بحيث تمتص العين المشهد التشكيلي وعلي حسب القوة التأثيرية للمشهد البصري يتم إشراك الحواس في هذه التجربة البصرية أو بمعني أصح يصبح المعادل البصري لتجربة الرؤيا تجربة فنية مكتملة تعبر العين الي الفكر عن طريق تحفيز الحواس ودعنا ندلل علي ذلك بمثل بسيط فحينما تقع العين علي لوحة تشكيلية أو مشهد بصري من صنع الإنسان تحاول العين ترجمة هذا المشهد الي تيارات حسية للحواس فتنفعل الأنف وتشم رائحة الورد المرسوم او تسمع الأذن واهمة صوت حفيف أوراق الشجر او صوت المياه وتصل التجربة الي عمقها حيث تتحفز حاسة اللمس لدي المتلقي فيشعر أنه يتلمس كل هذا الزخم من الأشياء التي هي مجرد تجربة متخيلة او مبتدعة إذن التجربة التشكيلية في عمقها وقمتها هي تحفيز الحواس عن طريق الإبصار من خلال طرح إبداعي للألوان والضوء والظلال وتعتبر هذه العملية هي لب الفن التشكيلي ومن هنا جاءت المحاولة الدائمة لاستخلاص ماهية هذا الفن وتمييزه عن أي فن آخر او أي محاولة لاستحضار التجربة الحسية من خلال الرؤية.
لكن معظم النقاد في كل العصور قد أكدوا علي أن أهم ما يميز الفنان هو مخاطبة القيم اللمسية للأشياء داخل العمل الفني حيث تقاس قوة العمل بمدي ما فيه من تحفيز للقيم اللمسية لدي المتلقي وهذه هي الحرفية الفنية القصوي للفنان ونحن نعرف أنه بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية في يد البرابرة القوط والوندال وغيرهم وانقسامها لجزئين شرقي وغربي سقطت أيضا القيم الفنية الكلاسيكية وسيطرت علي فن التصوير والنحت القيم الشرقية الجامدة وقوانين الايكينوجرافيك المجحفة حيث تبدلت الحرية في التصوير الي الجمود والتزمت الشرقيين واستمرت المدرسة الشرقية في السيطرة حتي ميلاد عصر النهضة الأول الذي كان أول شرارة فيه هو المبدع الفلورنسي الكبير وعملاق الفن  جوتو بوندوني .
لم يكن جوتو بوندوني مجرد مبدع ورسام وضع الأسس الجوهرية للرينيسانس وحسب بل كان أيضا رمزا لميلاد عصر جديد ليس في الفن فقط بل في كل مجالات الحياة الثقافية والسياسية أيضا ويعتبر علي سبيل المثال لا الحصر تعبيرا عن تحرر الفكر من سلطة الكنيسة الشرقية ويشكل هو والقس فرانسيس الأسيزي رموزا لنشأة عالم أقل تبعية للكنيسة وأكثر انفتاحا علي العلمنة والبساطة حيث أصبح الفن هو الجوهر الذي يملي نفسه علي الفنان من حيث الموقف والحالة الدرامية كما أصبحت الفلسفة والموعظة أكثر بساطة حيث مالت للترغيب وابتعدت عن الترهيب الذي زرعت به العصور الوسطي الخوف في قلوب الجماهير.
ويعتبر جوتو بوندوني نقلة كبيرة أدت الي أن يكون الشرارة الأولي كما قلنا آنفا فلقد كان هو التطور الذي بدأته ربما الفنانون في الأقاليم الشمالية مثل  تشيمابويه  لكنه كان أكثر جرأة حيث تخطي القوانين الجامدة للمدرسة الشرقية في التصوير.
ربما سوف يتعجب القاريء إذا عرف أن هذا الفنان العظيم بدأ حياته راعيا فقيرا بسيطا يتجول بين ريف ومراعي فلورنسا العظيمة لكي يرعي الأغنام حيث كانت مدرسته هي الطبيعة التي تعلم فيها أول دروسه الفنية لكن كتاب السيرة الذاتية يصفونه بعد أن أصبح ثريا أنه كان يجني ثروة من الربا حيث كان يقرض بفائدة لكننا لن نستغرب ذلك إذا عرفنا أن ذلك لم يكن إلا عرفاً وعادة تلك العصور التي انتشر فيها الإقراض بفائدة سواء في فلورنسا أو فينيسيا أو كل أنحاء إيطاليا لكن الدليل علي أنه كان شخصية كبيرة تتوافر فيها الطيبة نجد أن لورنزو ميديتشي وضع لبوندوني صورة تذكارية في كاتدرائية فلورنسا تقديرا لعظمته.
ونجد أن شاعر فلورنسا الأشهر دانتي الليجيري قد وضعه في كتابه الثاني من الكوميديا الإلهية  المطهر Porgatorio  حيث عقد مقارنة بينه وبين تشيمابويه.
تعود أهمية بوندوني في أنه نبه قرائح الفنانين الذين تلوه إلي البساطة التي يجب أن يعالج بها الموضوع المصور دون إلقاء النفس في متاهات وقوانين المدرسة الشرقية بحيث ينتزع المشهد المصور من التعقيد والرهبة والكآبة التي ربما تجعل المتلقي يبتعد كل البعد عن الهدف المرجو من تصوير الحدث الديني أو الدرامي الذي تعالجه الدفقة الشعورية للفنان.
وقد ساعد جوتو بوندوني علي ذلك أنه كان شاعرا أيضا تميز في نظم الشعر وكانت له قريحة عظيمة في الأدب ويكمن إبداعه في أنه جعل العين تتخيل القيم اللمسية في أعماله التي عالجها كما استخدم من الأجساد البشرية رموزا يعبر بها عن مكنونات جوهر اللوحة وحيث يقول فاساراي عنه  إن بوندوني العظيم يمد الصورة بنفس القوي التي يتمتع بها الموضوع الحقيقي حتي تثير خيالنا اللمسي حيث اختار للوحاته العناصر ذات الدلالات الجوهرية والمادية المباشرة مثل الجسد البشري وخاصة العاري حيث يثبت بوندوني أن البشر وكل العناصر المشتركة معه في اللوحة مشاركين في تجربة الحياة .
ويتأكد كلام الناقد الكبير فاساراي حينما نقوم بدراسة سريعة لأعمال بندوني والتي هي في الحقيقة هي بشارة جلية لعصر النهضة سواء من الناحية التكنيكية والوصفية أو من الناحية الحكائية حيث يصور معظمها قصص وحواديت دينية تمثل شخصيات كبيرة دينية وسياسية شاركت في صنع هذه الطفرة الفنية والفكرية.
ينزع جوتو الي تصوير الوجوه والأشكال البسيطة الضخمة التي تشبع الخيال اللمسي حيث يلجأ الي أبسط الألوان والظلال حيث يقوم كل خط من خطوط لوحات جوتو بوظيفة كبيرة تكاد تبرز كل مميزاته في إضفاء الفكرة الجوهرية علي العمل الفني.
ومن أهم الأعمال التي تبين هذه المميزات تلك اللوحات الرمزية للفضائل والرذائل التي زين بها جوتو بوندوني مصلي  أرينا  في بادوا حيث حاول أن يرمز لكل صفة سواء فضيلة كانت أو رذيلة بشكل بشري رمزي يحف بالشفرات التي تجعل من بوندوني ليس مصورا فقط بل فيلسوفا كبيرا ومفكرا فنجد أنه يصور البخل مثلا علي أنه سيدة عجوز تتبدي فيها كل معاني الشح حيث تحمل في يدها كيس نقود وتقبض علي فوهته بكل قوة ويخرج من فمها لسان علي شكل ثعبان يلدغ جبهتها ولم ينس أن يضيف بعض التفاصيل التي جعلت منه مخلوقا شائها وكريها وقد يذكرنا ذلك بربة الشح والبخل عند الأغريق والصورة التي صورها لنا أوفيديوس في  مسخ الكائنات  ويجعل قوة الرمز والتحوير الذي استخدمه بوندوني للتنفير من البخل يجعل منه فيلسوفا كما قلنا وينطبق هذا أيضا علي رذيلة الظلم التي صورها في صورة رجل ضخم يقبض علي سيف بيد وبالأخري رمحا.
والحقيقة أن هذه النماذج في مصلي أرينا قد أصبحت تشكل مدرسة في الترميز الذي استخدمه بعد ذلك أجيالا تلت بندوني.
ولعل بنودني أيضا قد اعتبر أن مهمته تبسيط القيم الروحية وجعلها موضوعا محببا للعيون وبالتالي ابتعد عن حالة الكآبة والترهيب التي كانت متبعة قبله ويبدو ذلك واضحا إذا تناولنا سلسلة اللوحات التي رسمها علي حوائط كاتدرائية القس فرانسيس الأيسيزي في أيسيزي في إيطاليا ذلك القس الذي رفع الي مصاف القديسين لما كان له من بساطة في الدعوة والموعظة حيث طور بكل جهده في المفاهيم الكاثوليكية البالية وأسس ما يعرف بمذهب الفرانسيكان نسبة إليه من هنا كان علي بوندوني أن يأخذ في اعتباره إظهار فرانسيس في تلك الصورة التي يتخيلها كل من يؤمن ببساطة رجال الدين وقدرتهم علي الإتيان بالمعجزات كما يعتقد.
وتعتبر أجمل وأقوي هذه اللوحات التي يصور فيها حلقات من حياة القس فرانسيس الأيسيزي هي لوحة  معجزة النبع  التي يعتبرها الناقد ريموندو لوتشينو أنها بداية حقيقية لمذهب البساطة الذي أسسه بوندوني حيث تصور حدوتة شهيرة تنسب للقس فرانسيس حيث تضرع للسماء ليتفجر نبع يشرب منه أحد الفلاحين الذي كان يقله بحماره حيث كاد يهلك من العطش ويحاول بوندوني الموازنة بين المغزي الروحي للحدوتة وبين التفاصيل حيث يتخطي نوعا ما بعض قوانين المنظور ليعبر عن الحكمة الروحية من وراء الحدث.
وتعتبر أيضا باقي اللوحات التي تحكي أحداثاً من حياة فرانسيس الأسيزي تعبر عن نفس الخط التطويري لجوتو بندوني مثل لوحة  فرانسيس يخرج عن طوع والده ويصبح زاهدا  حيث تمثل حدثا مهما هو في الحقيقة بداية تحول فرانسيس من الحياة العادية لحياة التنسك والرهبنة وهذا أيضا ما نستطيع أن نصف به لوحة وفاة فرانسيس الأسيزي.
إذن يعتبر جوتو بوندوني الذي مات عام 1337 الشرارة الفنية الأولي التي أججت عصر النهضة الذي يعتبر وبحق أزهي عصور الفن قاطبة من هنا يقول المؤرخ الكبير وول ديورانت  بوندوني ليس فقط فنانا رسم مجموعة من اللوحات التي سبقت عصره بل كان رساما رسم بمذهبه عصرا كاملا من التمرد علي العصور الوسطي مما أدي الي طفرة نوعية وكمية في الفن عامة .